طبقة الحكماء
في العلوم الفيدية إن الحكماء هم المسؤولون عن تعليم المعرفة للشعب، وهم
يعرفون بالبراهمانا، تبدأ مرحلة التعليم من سن مبكر، قبل بلوغ العاشرة من
العمر، ويبدؤون في تعليم الأولاد تلاوة الفيدا وحفظها مع الترانيم الخاصة
بها عن ظهر قلب، وبسبب تشعب العلوم الفيدية، توزع هذه العلوم على العائلات
البرهمانية، منهم من يتخصص بالطقوس والعلوم الدينية ومنهم من يتخصص بالعلوم
الصحية ومعالجة الأمراض "أيور فيدا"، ومنهم من يتخصص بالعلوم الزراعية
ومعرفة منافع الأعشاب، ومنهم من يتخصص بعلوم البناء، سهاباتيا فيدا، ومنهم
من يتخصص بعلوم الفلك، جيوتش، ومنهم من يتخصص بعلوم الموسيقى غندهارفا
فيدا، ومنهم من يتخصص بالعلوم العسكرية، دهانور فيدا، وغير ذلك من العلوم
الفيدية الأخرى. وهكذا تكون كل عائلة متخصصة بأحد فروع العلم الفيدي، لا بل
من واجبها أن تتقن الفرع المتخصصة به وتعلمه إلى الأولاد والأحفاد، وأيضاً
تستخدم المعرفة المتخصصة بها في إرشاد باقي طبقات المجتمع. على العائلات
المتخصصة بعلوم الصحة مثلاً، إرشاد الشعب على الحفاظ على صحتهم ومداواتهم
عند المرض، والعائلات المتخصصة بهندسة البناء عليها إرشاد وتعليم الشعب على
كيفية بناء بيوتهم ومساكنهم، وهكذا يكون دور العائلات البرهمانية مشابه
لرجال الدين والمعلمين والأخصائيين في عصرنا الحالي. كانت العائلات
البرهمانية تنال قسط كبير من الاحترام في المجتمع في الحضارات الفيدية
القديمة. شعار العائلات البرهمانية اللون الأبيض وهي تعتمد مسلك الغيانا
يوغا في طريق التطور، الغيانا يوغا تعني المسلك التوحيدي بطريق العلم
والمعرفة، فهم يمارسون التقنيات الفيدية ويتعمقون في معرفتها من أجل الوصول
إلى التنور والإشراق.
التربية والتعليم
لم يكن النظام التعليمي
الحالي رائجاً في العصور القديمة، إن هذا النظام قد وجد منذ ما يقارب 300
سنة فقط، بالمقارنة مع عمر الوجود البشري الذي يقاس بملايين السنين. بالرغم
من كل ما تقدمه المناهج التعليمة الرائجة، إلا أن هناك العديد من الأولياء
الذين يجدون ضعفاً كبيراً في المناهج التعليمية. تظهر الدراسات العلمية
الحديثة إن العقل البشري مرتبط بشكل وثيق بحقل الوعي، لذلك على المناهج
التعليمية أن تكون مرتكزة على الوعي من أجل أن يتفتح العقل الفردي عليه.
يكمن الهدف الأسمى للتعليم في إيجاد إنساناً كاملاً عالماً وملماً بكل ما
يحتاجه من معرفة. ولكن ما نجده اليوم هو عكس ذلك تماماً. عندما ندخل إلى
الجامعة ونتخصص بفرع واحد من العلوم، ونبدأ بالسنة الدراسية الجامعية
الأولى، نجد أن هناك الكثير من خارج اختصاصنا ما نجهله. قبل الدخول إلى
الجامعة لم نكن على علمٍ بكل هذه العلوم التي نجهلها. وكلما يزيد علمنا
لمواضيع التخصص الذي اخترناه، كلما يزيد علمنا للمواضيع العلمية الأخر التي
لم ندرسها، وهكذا وبدلاً من أن تزيدنا الجامعة علماً فهي تزيدنا جهلاً
للمواضيع العلمية التي لم ندرسها. ويصح فينا القول المعروف: "وعلمت شيئاً
وغابت عنك أشياء". ويعود سبب ذلك أن التعليم الحديث يعتني في دراسة
المواضيع العلمية السطحية الظاهرة والمتعددة والمتنوعة، بدلاً من دراسة
وتنمية المصادر المشتركة لكل هذه العلوم. إن مصدر كل معرفة هو في حقل الوعي
البشري الكامن في كل فردٍ منا. أما في التعاليم الفيدية، فيلقن الحكماء
التلاميذ معرفة لا محدودة عن مصدر الوجود ومجال الوجود وغاية الوجود. إن
معرفة المفاصل الثلاثة للوجود: المصدر والمجال والغاية، هي كافية لفهم
الوجود كله، وبذلك يسهل على الفرد المدرك لهذه المفاصل الثلاثة، من معرفة
كل ما يحتاجه في أي مجال يريد الغوص فيه. فلنأخذ مثالاً على ذلك: في علم
الكمبيوتر وهو أكثر العلوم حداثة من حيث التطور التكنولوجي، فهو يعمل على
ثلاثة مبادئ شبيهة بالمفاصل الثلاثة للوجود، يعمل الكمبيوتر من خلال ثلاثة
وظائف وهي: إدخال المعلومات ومعالجة المعلومات وإخراج المعلومات، أي مصدر
المعلومات ومجال المعلومات وغاية المعلومات، وما ينطبق على علوم الكمبيوتر
ينطبق أيضاً على مجمل العلوم الأخرى، فلنأخذ مثل آخر؛ في علوم الزراعة،
البذور هي المصدر وتفتحها ونموها هو المجال والثمار هي غايتها. في العلوم
الفيدية لا يكتفون بالتعريف على مفاصل الوجود، لا بل يعلّمون التلاميذ
كيفية اختبار مصدر الوجود وطريقة التماشي مع مجال الوجود وسيلة تحقيق غاية
الوجود. وبذلك يكون الإنسان قد أدرك مصدر وجوده، وتعلّم كيفية العمل
بانسجام مع قوانين الطبيعة التي تسيير حياته، وامتلك الوسيلة التي تجعله
يصل إلى تحقيق كل أهدافه في أن يعيش الكمال والتوحيد. طبقة الحكام
في العصور القديم لم يكن
هناك ما يعرف اليوم بالنواب والبرلمان والنظام الديمقراطي، والانتخابات
وغيرها. في النظام الاجتماعي الفيدي المتركز على النظام العائلي، من غير
الممكن أن يكون هناك ما يعرف بالديمقراطية في العائلة الواحدة بين الأب
وأولاده، حتى في عصرنا هذا لا نجد في العائلات المتماسكة ديمقراطية التساوي
بين الأب والأم والبنين والبنات. إن القانون الطبيعي يفرض ذاته في العلاقة
العائلية، وهذا القانون الطبيعي قد نمى مع التكاثر في العائلة الواحدة، وقد
تم اعتماد نظام الابن البكر في وراثة الزعامة. في العائلة يكون الأب رب
العائلة، وفي القبيلة شيخ القبيلة هو الأب الأول، ويرثه في ذلك ابنه البكر
ومن ثم حفيده البكر، أي الابن البكر لابنه البكر، وهكذا تنتقل القيادة في
القبيلة جيل بعد جيل، دون أي انتخاب أو تصويت وما قد يتبعها من خلافات
ومعارضة وغير ذلك من الأمور التي تحدث في عصرنا اليوم. في التقاليد الفيدية
القديمة لم يكن الحاكم أو الشيخ أو الأمير أو الملك هو صاحب المرجعية
الأخيرة في المجتمع، ومهما ارتفع شأنه فهو دوره محدد في إدارة وحماية
المجتمع ولا يتدخل في الوظائف الأخرى كالتعليم أو التجارة. لا يخضع الحاكم
إلى طبقة الحكماء، بالرغم من أن الحكماء هم في الطبقة الأولى، بل عليه
استشارتهم والرجوع إليهم في العلوم التي يحافظون عليها كما عليه تكريمهم
وتأمين الحماية لهم. لذلك لم يكن موضوع الزعامة شيء يعطي صاحبه حرية مطلقة،
وبالتالي لم يكن هذا المركز محطة للأنظار. لم تكن ثقافات الشعوب القديمة
مبنية على المساواة الفردية في المجتمع، وبالتالي عندما يولد الإنسان يتبع
عائلته، ويرث مركزها الاجتماعي كما يرث مهنة أبيه ويتابع حياته على هذا
المنوال. لم يكن هناك أي نوع من التفكير في تخطي هذا السلوك. لا بل تفرض
المعتقدات والتقاليد على كل فرد أن يقوم بواجبه المقدس. يعرف الإنسان واجبه
المقدس، الذي لا يفرضه عليه أحد من عائلته، بشكل تلقائي، فإذا ولد الفرد في
عائلة من طبقة الحكام مثلاً، يكون واجبه في إتقان المبارزة وفنون القتال
للدفاع عن مجتمعه. إن شعار عائلات الكشاتريا، الحكام هو اللون الأحمر.
يعتمد الكشاتريا مسلك الراجا يوغا في طريق التطور، الراجا يوغا تعني المسلك
التوحيدي الملوكي، فهم يمارسون تقنيات الراجا يوغا التي لا تتطلب الكثير من
التقشف والأداء البدني، ومن خلال ذلك يستطيعون الوصول إلى التنور والإشراق.
أنظمة الحكم
في عصرنا هذا، ونتيجة للجهل
والخلل الاجتماعي، فقد الإنسان واجبه في الحياة ولم يعد يعرف ما عليه أن
يفعل، ومن لا يعرف ماذا يفعل يلجأ إلى انتقاد الآخرين ومعارضتهم. هكذا وجدت
الثورات الشعبية والانقلابات وتمت الإطاحة بالملوك وتدخّل الشعب واستولى
على الحكم، فأقاموا أنظمة مغايرة للنظام الطبيعي، منها الأنظمة الشيوعية
والأنظمة الاشتراكية والأنظمة الديمقراطية، وغيرها. في النظام الديمقراطي
مثلاً عندما تكون مدة ولاية الرئيس محددة بين أربعة سنوات في بعض الأنظمة
وسبع سنوات في أنظمة أخرى، يكون الرئيس في جزء كبير من ولايته، منشغلاً في
كيفية تسلمه الحكم وفي كيفية المحافظة عليه لمدة ثانية، ويكون هذا الانشغال
أحياناً أكثر من مدة الحكم الفعلي. في الولايات المتحدة مثلاً، والتي هي من
أكبر بلدان العالم، تكون مدة الرئاسة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة،
في السنة الأولى من الحكم ينكب الرئيس على دراسة الملفات وتسلم مقاليد
الحكم والتعرف على فريق عمله، وفي السنة الرابعة يبدأ في العمل على تجديد
ولايته، إذا لم يوفق في التجديد، يأتي من يخلفه ويفعل ما فعل السلف، وتكون
النتيجة أن انتباه الرئيس لم يكن موجها بشكل كامل على إدارة البلاد. أما
إذا حالفه الحظ وجدد ولايته، وبسبب عدم إمكانية عودته مرة ثالثة، عادةً ما
يقوم الرئيس بتغيير الإستراتيجية التي وضعها في ولايته الأولى ويقع في خلاف
مع فريق عمله، ويتعرض لنوع من الضغوط وربما لنوع من المحاكمات. وهكذا نرى
أن نظام الحكم المرتبط بحقبة زمنية محددة لا يسمح للحاكم في التركيز بشكل
كامل على إدارة البلد، وبالتالي لا يستطيع الحاكم أن يتقدم بالبلد إلى
مستويات أعلى من التطوّر والبحبوحة والتقدّم. أما في الأنظمة الرئاسية
الأخرى التي يصبح فيها الرئيس حاكماً مطلقاً مدى الحياة، فهي أسوء بكثير من
الأنظمة الديمقراطية التي يتغيّر فيها الرئيس بعد فترة من الزمن. في
الأنظمة غير الديمقراطية، يكون الرئيس معرضاً لخوفٍ دائم من إمكانية حدوث
انقلاب عليه. فهو الذي تولى السلطة بظروف معينة، وهو الذي وضع أعوانه في
الحكم، وهو الذي يمنع معارضيه من الوصول إلى البرلمان، فيقبض على جميع
مقاليد الحكم بقوة، ويصبح شغله الشاغل في المحافظة على استمرارية وتأمين
مصالحه الخاصة ومصالح معاونيه المقربين منه، ويترك الشعب يتخبط في الفقر
والمعاناة، كي يبعده عن الدخول في الأمور السياسية. إن هذا النوع من الحكم
هو الذي يجلب المآسي لعامة الشعب. أما في الأنظمة الملكية الحالية فهناك
نوعان، منها الأنظمة الملكية التي لا يتدخل فيها الملك أو الملكة في شؤون
البلاد، مثل الأنظمة الملكية في أوروبا، والتي تعتمد فعلاً على النظام
الديمقراطي، وهذه الأنظمة، وبالرغم من نظامها الملكي، إلا أنها تعتبر
مشابهة للنظام الرئاسي المرتبط بفترة زمنية محددة مثل بريطانيا فهي لا
تختلف عن فرنسا والولايات المتحدة. أما النوع الثاني من الأنظمة الملكية،
وهو الذي فيه يكون الملك أو الأمير حاكماً فاعلاً للبلد، مثل المملكة
العربية السعودية ودول الخليج والمملكة الأردنية الهاشمية وغيرها من الدول،
والتي نرى في معظمها استقراراً سياسياً خالياً من أي خلافات أو نزاعات على
السلطة. في هذه الدول وبالرغم من أنها تنحرف أحياناً إلى تطبيق بعض المبادئ
الديمقراطية لاعتقاد حكامها أنهم من التقاليد القديمة التي عليهم تحديثها،
إلا أننا نجد أن الحكام يعملون بإخلاص لمنفعة شعوبهم أكثر بكثير مما تقوم
به الدول العريقة بديمقراطيتها. لا تعتبر هذه الأنظمة الملكية بالأنظمة
المثالية، ولكنها الأفضل من حيث اهتمام الحاكم بشعبه.
في العصور الفيدية، كان
الحاكم هو المسؤول على كل شيء بما يتعلق بشعبه. إن الملك الذي يملك كل شيء
هو مسؤول عن كل شيء، فهو عليه أن يضع الأنظمة التي تؤمن الرضا لجميع طبقات
الشعب. هناك مبدأ أساسي في المعرفة الفيدية وهو أن الملك يعكس الوعي
الجماعي للمملكة. وهذا المبدأ يشبه تماماً القول الكريم: "كما أنتم يولى
عليكم". على الحاكم أن يكون تقياً ومتنوراً ومتطوّراً بوعيه كي يستطيع أن
يرفع الوعي الجماعي إلى أعلى مستوى من التنور، الأمر الذي يسمح له كحاكم أن
يحقق لشعبه أكثر ما يستحق.
|