
منذ بداية الوجود البشري
والإنسان ميّال إلى اكتساب المعرفة، بهدف أن يعرف أسرار الوجود. كان الإنسان ينظر
في كل ما حوله ويسأل نفسه؛ كيف وجد هذا الوجود كله ومن يحرّكه؟ ومن يحرّك الشمس
والقمر والكواكب في الفضاء؟ كيف يهبّ الريح؟ كيف تشتعل النار وكيف تحرق؟ من أين
نبعت المياه وكيف تتدفق؟ كيف وجد التراب وكيف فيه ينبت كل شيء؟
ويسأل أيضاً؛ من يحرّك الجسم؟
من يحرّك الأطراف؟ كيف تدرك الحواس؟ كيف نتذكر؟ كيف نميّز؟ كيف نشعر؟ كيف نعرف
ذاتنا؟ ومن أين أتينا؟ متى وجد هذا الكون؟ وكم سيدوم؟ ومتى سيزول؟
استمر الإنسان في البحث عن
الأجوبة لكل تساؤلاته. وقد دونت المخطوطات والكتب الكثير من الأجوبة، ولكن الأجوبة
أتت بتساؤلات جديدة، فتشعب البحث وتوزع، لدرجة ضاع السبب الرئيسي الذي بسببه انطلق
البحث في البدء. ومن أجل أن نعود إلى أساس البحث البشري يمكننا اختصار جميع
التساؤلات البشرية حول الوجود، في ثلاثة أسئلة عامة رئيسية: ما هو مصدر هذا الوجود؟
ما هو مجال تمدده؟ وما هو هدف وجوده؟
عندما نستطيع الإجابة على هذه
الأسئلة الثلاثة نكون قد أدركنا كل شيء، ولن يبقى هناك أي شيء نحتاج أن ندركه.
هذا هو ما يريد كل إنسان أن
يعرفه، وقد حاول الإنسان عبر العصور أن يجيب على هذه الأسئلة كلها، ولذلك وجدت كل
هذه الكميات الكبيرة من الكتب والمخطوطات والمنحوتات والنقوش، وكل هذه الشرائع
والفلسفات والأفكار والمفاهيم والحِكَم والتقاليد والديانات والتعاليم والدراسات
والنظريات العلمية. ويبقى السؤال: هل نحن نحتاج إلى المزيد؟ ويكون الجواب؛ من
المؤكد أنه ما دام الإنسان لم يصل إلى المعرفة الكاملة فهو يحتاج دوماً إلى من
يذكّره بهدف الوصول. ومن طبيعة الوعي أيضاً أن يتفتّح باستمرار واستمرار جيل بعد
جيل، كما تتفتّح الأزهار باستمرار واستمرار سنة بعد سنة. الزهر القديم يذبل وقد أتى
للزمن القديم، أما الزهر الجديد فهو حاجة هذا العصر. في الزمن القديم تختلف
المفاهيم والتفسيرات والمعتقدات والتقاليد، وفي العصر الحديث تسود مفاهيم العلم
والمنطق والتحليل والإثبات. لذلك نرى في كل زمان من يحاول أن يفسّر ما قد قيل في
السابق، ويكشف ضوءً جديداً على الحقيقة الأزلية، ويبقى هذا التفسير مرهوناً بمستوى
الوعي البشري في الزمان والمكان، وأيضاً للمفسّر تأثيراً في عرضه للتفسيرات، هذا ما
يترك الباب مفتوحاً أمام الأجيال القادمة كي تحصل على كشف مستمر لوجه من أوجه
الحقيقة. ومع تتابع تفتّح الوعي على هذا المنوال، سوف تصل البشرية إلى فهم الحقيقة
الأزلية، وعندئذ سوف يتوقف كل بحث وكل تقدم، ولن يكون هناك أي حاجة لأي تفسيرات
جديدة.
إن الشيء الأهم من كل كلام وكل
تفسير هو الوعي الذي سوف يستوعب هذا الكلام وهذا التفسير، ولذلك كان لا بد من وجود
تقنية تفتّح مجال الوعي الفردي وتعطي الاختبار لحالة من الوعي اللامحدود الذي به
يتم إدراك كل شيء. وقد مارس الإنسان العديد من الطرق والوسائل التي توصله إلى إدراك
الحقيقة الأزلية، ولكنه ضاع في العديد من الطقوس والممارسات التي أصبحت فارغة وبلا
منفعة، فراح الإنسان يجبر الذات ويقهرها كي يعيدها بالقوة إلى طبيعتها الأصلية،
لذلك وجد المفهوم السائد الذي يدعو إلى العذاب من أجل التطوّر، وبذلك ضاع هدف
الحياة، وأصبحت الحياة تعرف بالمعاناة. ولكن حقيقة الحياة هي الفرح، والفرح يأتي من
الرضا، والرضا في أن يحصل العقل على صفة اللامحدود. يكسب العقل صفة اللامحدود فقط
عندما يثبت في حالة من الوعي الصافي التي بها يدرك جميع قوانين الطبيعة، وبذلك يصبح
كل عمل يقوم به الإنسان منسجماً مع قوانين الطبيعة، الأمر الذي يجعله قادراً على
تحقيق جميع رغباته. وبتحقيق الرغبات يحقق الإنسان النجاح والتقدم والفرح.
إن فصول هذا الكتاب هي إجابة
على الجزء الأكبر من الأسئلة التي تدور في فكر الإنسان حول الوجود، هناك الكثير من
المواضيع والمفاهيم والمعتقدات الموجودة هنا وهناك وفي مختلف أنحاء العالم ولكن هدف
هذا الكتاب هو محاولة جمع كل هذه المفاهيم وإبراز القاسم المشترك فيما بينها لعلنا
نصل إلى أقرب مسافة من الحقيقة. إذا كنا نؤمن أن الله واحد خالق كل شيء، تكون
الحقيقة هي واحدة، وإذا كانت كل هذه المفاهيم والفلسفات والمعتقدات وأيضاً الدراسات
العلمية تتكلم عن الحقيقة، فهي جميعها تتكلم عن الحقيقة الواحدة الأزلية، هذا هو
القاسم المشترك بين كل المفاهيم وكل الشعوب وفي كل الأجيال الماضية والحاضرة
والمستقبلة.
مع معرفتنا للحقيقة نحتاج أيضاً
إلى أن نعيش الحقيقة في حياتنا اليومية، وهذا ما يتطلب ممارسة تقنيات تطوير الوعي
وجعل الجهاز العصبي قادراً على أن يكون سكوناً مطلقاً وفي الوقت نفسه ديناميكية لا
محدودة.
لقد تم وضع هذا الكتاب بعد
سنوات طويلة من البحث والاختبار في مجال الوعي والإدراك البشري، وقد تم تجميع
المعلومات من مراجع علمية كثير يفوق عددها المائة مرجع علمي وأهمها كتب الفيدا
المتنوعة، إضافة إلى دراسات حول الأديان الحديثة والأديان القديمة وأيضاً الفلسفات
والحضارات والعادات الشعبية. كما جرى بحث واسع على شبكة الإنترنت حول المواضيع
المختلفة. وكانت المراجع التابعة لجامعة مهاريشي للإدارة هي الأكثر استخداماً ومنها
كتاب البروفسور طوني أبو ناضر حول اكتشاف الفيدا في الفسيولوجي البشري.
إن غاية هذا الكتاب هو إعادة
الحياة إلى مجراها الطبيعي، إلى حالة الفرح الدائم، وجعل الإنسان يعيش في الغبطة
والسعادة، ويعيش في الجنة على الأرض.
مع كل إخلاص
الدكتور سليم حداد
دكتوراه في العلوم الاجتماعية والسياسية
من جامعة مهاريشي الأوروبية للأبحاث
خبير في علوم وتكنولوجيا مهاريشي الفيدية
أستاذ في تقنية التأمل التجاوزي وعلم الذكاء الخلاّق |