العلم الفيدا
تعرف الفيدا على كونها أقدم العلوم في تاريخ الإنسان. لا يوجد تدوين لكيفية
وجود الفيدا ومن وضعها. ولكن الحكماء الفيديين يعتبرون بأن الفيدا لم يضعها
أي إنسان، لا بل يعتقدون أن الفيدا هي موجودة قبل الوجود البشري فهي النظام
الكوني الإلهي الذي يعمل في الوجود منذ انبثاقه ولحين اضمحلاله. وقد أدرك
الراءون الفيديون معرفة الفيدا من خلال تفتح عقلهم الواعي على والوعي
الصافي غير المحدود والمطلق في داخلهم. كان أول الرائين مدهو تشاندس، وفي
التعاليم الفيدية يدل الاسم على المسمى، وعلى الدور الذي يلعبه المسمى في
حياته، مدهو تشاندس تعني حرفياً "كاشف الصفات". كلمة مدهو تعني كشف ما هو
غير معروف. وفي عملية الكشف يتم إظهار كل ما يدور حول الغرض المكشوف. ماذا
كشف مادهو تشاندس؟ لقد كشف التشاندس. إذا عدنا إلى المبدأ الثلاثي للوجود
في الريشي والديفاتا والتشاندس، هذا الثالوث الذي ظهر نتيجة لتفتح الوعي
فتحولت أحادية السامهيتا إلى ثلاثية الريشي والديفات والتشاندس، كان الريشي
ليظهر الفاعل والديفات ليظهر الفعل والتشاندس ليظهر المفعول به، والمفعول
به هو ليس سوى الواحد الأحد الذي أدرك ذاته وعرف ذاته بذاته. إن تشاندس هو
الذات المعروفة من قبل الذات العارفة. وبما أن الذات العارفة والذات
المعروفة هما أحادية الذات، تكون الذات المعروفة هي الصفة الكاملة للذات
العارفة. وعندما يكشف مادهو تشاندس الصفة للذات المعروفة، تكون الذات
الأحادية قد انكشفت بشكل كامل. عندما استهل مادهو تشاندس كلامه عن كشف
الذات الكلية، نطق بكلمة الوجود الأولى والتي هي أول كلمة من الرِك فيدا.
والرِك فيدا هو الجزء الأول من أجزاء الفيدا الأربعين. والكلمة الأولى في
الرِك فيدا هي "أكني" وتعني النار أو النور. وكما تقول علوم الفيزياء أن
الوجود قد ابتدأ مع الانفجار الكبير المعروف بالبيغ بانغ، كذلك رأى مدهو
تشاندس هذا الوهج الكبير من النار في بداية أول كلمة من كلمات الفيدا. أما
في تعمقنا بكلمة أكني، فنرى أن الحرف الأول هو حرف "أ" وهو التعبير المطلق
عن انطلاق الصوت. والصوت وهو ليس إلا ذبذبات من الطاقة. وهذه الذبذبات
الصوتية يمكنها أن تبدأ من ذبذبات أقل تذبذباً وأيضاً أقل منها إلى أن تصل
الذبذبات إلى حالة الهمود. وهذا ما يظهر كيف أن حالة الهمود قد تحولت إلى
صوت نتيجة للفعل الأول في الوجود وهي تفتح الوعي وتحول أحادية السامهيتا
إلى تعددية الريشي والديفاتا والتشاندس. إن حرف "أ" الذي هو التعبير عن
الانطلاق يظهر في طياته الريشي أي الذات الفاعلة، ولكن هذا الصوت المنطلق
لا بد أن يتحول إلى حرف "آ" الممدودة والذي هو التعبير عن الاستمرار، والذي
يظهر في طياته الديفاتا أي الفعل، ماذا فعلت الـ "أ"؟ استمرت وتحولت إلى
"آ". وبذلك يكون قد ظهر الفعل الأول في الوجود. ولكن هذا الاستمرار الذي
انطلق من نقطة محدودة لا يستطيع أن يستمر إلى ما لا نهاية. كل ما هو انطلق
من المحدود عليه أن ينتهي بالمحدود. وهنا يأتي الحرف "ك" في كلمة أكني، كي
يوقف استمرار الـ "آ" ومع ظهور الـ "ك" يكون حرف "أ" المنطلق والمستمر بحرف
"آ" قد تحول إلى حرف "ك" وهكذا تكون الـ "ك" المتوقفة صفة الـ "أ"
المنطلقة. هكذا نرى أن القانون الثلاثي المبني عليه الوجود كله، قد أكتمل
في النبرة الأولى للوجود. تتضمن هذه النبرة، التي هي "آك"، جميع قوانين
الطبيعة. هذا هو الإعجاز الإلهي الرائع.
يقول مهاريشي ماهش يوغي في شرحه للفيدا، أن الفيدا، أي معرفة الوجود، هي
مختصرة كلها في هذه النبرة الأولى، وكل ما يلي ذلك من ملايين الكلمات
والتصورات في كتب الفيدا، هي ليست سوى تفسيرات متكررة ومتنوعة لهذه النبرة
الأولى التي تكشف عن نظام تحول الأحادية إلى تعددية ثلاثي.
الوظائف الثلاثية في الخلق
عندما همّ الوجود للظهور، وبظهور العقل الكلي الأول، كان معه الوجود
المنطلق من الوظائف الإلهية الثلاث، وهي الخلق والحفاظ على الخليقة وفناء
الخليقة. إن عملية الخلق هي مرادفة لظهور الريشي. براهما (الخالق) هو رديف
للريشي. إن الخلق هو الانطلاق، وكما انطلقت الـ "أ" وبنفس الطريقة من تحول
السكون إلى ديناميكية متذبذبة ومنها النبرة الصوتية الأولى، كذلك انطلقت
الطاقة الهامدة والساكنة وتحولت إلى طاقة متفاعلة ومن ثم مادة ديناميكية.
وعملية الحفاظ على الخليقة هي مرادفة لظهور الديفاتا. فيشنو (الحافظ) هو
رديف للديفاتا. إن عمل الحفاظ على الخليقة هو في استمرار الوجود في الظهور،
وكما استمرت الـ "أ" بالـ "آ" الممدودة كذلك تستمر الخليقة بالحفاظ عليها
ظاهرتاً. أما عملية الفناء فهي مرادفة لظهور تشاندس. شيفا (المدمر) هو رديف
للتشاندس. إن تشاندس هو انعكاس للذات الفاعلة، فهو الذي يخفي الذات الفاعلة
ويظهر الذات المفعول بها بشكل كامل، وباكتمال الصورة تكون عملية الخلق قد
حققت غايتها، ويكون الاستمرار قد توقف، ويعود الوجود الظاهر إلى حالة
الوجود غير الظاهر.وهكذا يخفي شيفا الخليقة ويعيدها إلى حالة الهمود.
التفسيرات الخاطئة للفيدا
كما ذكرنا في الفصول السابقة، وكما يقول علماء الفيدا أن الفيدا هي القانون
الطبيعي للوجود، وتبقى الفيدا في الذاكرة الكونية، حتى لو اضمحل الوجود
وتحول إلى حالة غير الظهور، ويعود الوجود يتذكر الفيدا أي قوانين الطبيعة
كلما تهيأ للظهور. في عصرنا هذا نشبه الفيدا بالمعلومات الموجودة في خلية
الحمض النووي. إن خلية الحمض النووي تحتوي عن المعلومات الكاملة حول الجسم.
ويمكن للعلم الآن أن يعيد بناء جسماً متكاملاً لشخص غير موجود في الحياة
المادية إذا كان هناك جزء واحداً من حمضه النووي. هكذا تستمر الفيدا في
الوجود بالرغم من زوال الوجود المادي.
تعيش المخلوقات بالتماشي مع الفيدا أي قوانين الطبيعة، ولا يمكن لهذه
القوانين أن تتغير، إنها القوانين المسيرة للكون. أما المخلوقات التي لا
تتماشى بانسجام مع قوانين الطبيعة، تتعرض لرد فعل الطبيعة عليها، مثال على
ذلك: إذا اختار الإنسان أن يسير في الظلمة الكالحة سوف يتعرض للعرقلة ويقع
وقد يتضرر من جراء الوقوع. وهكذا إن من يختار أن يسير عكس قوانين الطبيعة،
يتعرض للعراقيل والمخاطر. وهكذا ونتيجة للجهل يفقد الإنسان فهم المعاني
الحقيقية للفيدا. ويحل بها ما هو واقع الآن في الهند، التي تعتبر أرض
الفيدا، من فوضى وسوء استخدام. |