الذكاء
الخلاق
إذا تأمّلنا في الكون كله، في كل ما حولنا لوجدنا أن هناك نظاماً يسيّر كل
شيء في الوجود، هناك ذكاء ونظام في عمل كل شيء أكان كبيراً بحجم الكواكب أم
صغيراً لا
يرى سوى بالمجهر. إن هذا النظام التفصيلي الهائل، هذا الذكاء الخلاق يسمى القانون الطبيعي. إذا
حاولنا أن نعدد جميع قوانين الطبيعة بتفاصيلها لكنا نحتاج إلى سجلات العالم
كلها كي ندونها، ولن نستطيع من تدوينها. إن كل هذا هو ليس سوى النظام
الكوني الذي
به
يحدث كل شيء بتطابق معه.
ولكن عوضاً عن الذهاب بالتفاصيل في معرفة قوانين الطبيعة، باستطاعتنا أن
نجد قوانين شمولية لنظام عمل الطبيعة ككل. لقد أورد الحكيم العالم مهاريشي
ماهش يوغي في علم الذكاء الخلاق عدد من المبادئ الرئيسية لقوانين الطبيعة.
إن بعض من هذه المبادئ العامة ربما تكون قد وردت على ألسنة العديد من
العلماء والحكماء والفلاسفة والأنبياء والرسل. ولكن ما نورده في هذا الفصل هو ما جمعه مهاريشي ماهش
يوغي في علم الذكاء الخلاق، الذي يعتبر خلاصة علم الفيدا بلغة ومفاهيم
العصر. لقد أوجز مهاريشي قوانين الطبيعة كلها بالمبادئ التالية:
1- طبيعة الحياة هي النمو
إذا نظرنا في كل ما حولنا نجد أن كل شيء ينمو ويتقدم باستمرار، هذه هي
طبيعة الحياة. وهدف الحياة هو تمدد السعادة، أما التطور فهو العملية التي
بها تصل الحياة إلى الاكتمال. تبدأ الحياة بتفاعل الطبيعة الكونية، فتنطلق
الطاقة الكونية وتأخذ صفة الذكاء الخلاق كي توجد المادة. ومع تطور الحياة
تتمدد السعادة. إن هدف الحياة الفردية هو نفسه هدف الحياة الكونية، وغاية
الإنسان هو الاكتمال. وهكذا ينمو الإنسان إلى الاكتمال وينمو الكون كله إلى
الاكتمال.
أما النمو فهو الفعل الذي به تتجه الحياة، والفعل لا بد أن يتوقف عندما يصل
الوجود إلى غايته من الحياة، وبذلك يضمحل الوجود كي يندفع مرة أخرى إلى
حياة. لذلك إن الحياة متلازمة مع النمو. كل شيء ينمو بشكل طبيعي ودون جهد،
ونحن نستطيع أن نستفيد من طبيعة الحياة في النمو كي نتطوّر وبجهدٍ أقل على
جميع مستويات حياتنا الفردية.
2- النظام موجود في كل مكان
في نمو كل شيء حولنا نجد أن هناك نظام ودقة تسيّر عمل كل شيء، من أصغر نبتة
في قارعة الطريق، إلى أكبر كوكب في المجرات السماوية، كلها تنمو بنظام
دقيق، كلها تنمو بذكاء ينظم خطوات تطورها ونموها. فالخليقة كلها تولد وتنمو
وتصل إلى أعلى مستوى من النمو، ومن ثم تبدأ بالتراجع وتضمحل وتتحول كي تولد
من جديد. هذا هو نظام الاستمرار الأبدي للتغير المبني على حقل ثابت لا
يتغير. هذه هي الدقة في العمل التي تعمل من خلال نظام كوني له ثلاث وظائف
وهي الخلق والنمو والزوال، الولادة والحياة والموت، وكل شيء يعمل ضمن هذه
الوظائف الثلاثة. يستطيع الإنسان أن يستفيد من النظام الطبيعي الموجود في
كل مكان كي ينظم تفاصيل حياته ويعيش حياة خالية من الخطأ والمعانات.
3- الحياة هي طبقات
إن للحياة وجهان؛ المطلق والنسبي. المطلق هو حقل غير ظاهر لا محدود، أما
الحقل النسبي فهو حقل الظهور حقل التغيير المستمر. وفي حقل التغيير
المستمر توجد مراحل النمو، ومراحل التطور، ومراحل تفتح الوعي وانعكاسه
في المادة. وبانعكاس الوعي في المادة يوجد كل هذا التنوع
اللامحدود للخليقة، ومع هذا التنوع تظهر طبقات الحياة، فالجماد طبقة،
والنبات طبقة، والطيور طبقة والأسماك طبقة، والحيوان طبقة والإنسان طبقة
وغيرها، ولكل طبقة قوانينها ونظامها. وكذلك للعقل طبقات، وهي: إدراك
الحواس، الذهن، المنطق، المشاعر والأنا، وهي جميعها ترتكز على النفس والتي
بدورها تستمد طاقتها من الروح الفردية المتصلة بالروح الكونية. كذلك هناك
طبقات في الخليقة ككل منها المستوى الظاهر، السطحي، وصولاً إلى المستوى
المرهف ومنه إلى المستوى الأكثر إرهافاً، ومن ثم مستوى التجاوز المطلق غير
المحدود وغير الظاهر. هذه هي طبقات الحياة، وقوانين الطبيعة هي ذاتها تعمل
في كل
الطبقة ولكنها تتطور وتختلف في التعبير
والانعكاس.
4- الحقل الخارجي يعتمد على الحقل الداخلي
بما أن الخليقة هي طبقات، والمستوى المطلق هو وراء كل الوجود، فكل شيء هو
التعبير لهذا المطلق، الذي هو الوجود الصافي، والذي هو المكوّن الأساسي لكل
الظواهر في الحقل النسبي. وكما برهنت علوم فيزياء الكم، أن الحقل الموحد،
غير الظاهر، هو أساس تكوين الذرة، والذرة هي أساس تكوين كل شيء في الوجود،
هكذا يكون الحقل الخارجي معتمداً كلياً على الحقل الداخلي، لا بل هو
انعكاساً له. وكلما تزداد معرفتنا لاختبار هذا الحقل الداخلي، هذا الوعي
المجرد فينا، تصبح مقدرتنا قوية جداً في جميع نواحي حياتنا العملية، فنستمد
الطاقة الداخلية غير المحدودة ونستخدمها في حقل محدوديات حياتنا.
5- أطلب العلى أولاً
إن الحياة هي تدفق الذكاء والإبداع والصفاء والغبطة، هي الجريان الأبدي
للطاقة الإلهية، الحياة هي نور الله، وهي تعبير الألوهية. هذا هو المستوى
الأعلى الذي على كل فرد أن يطمح إليه. عندما نعرف ما هو المستوى الأعلى
للحياة، نبدأ في البحث عنه. وعندما نعرف أن منبع الحياة هو حقل الوعي
المجرد الموجود وراء المستوى المرهف في داخلنا، والذي هو المصدر غير
المحدود للطاقة والذكاء والمادة، ونعرف أن المستوى الأعلى للحياة هو أيضاً
في داخلنا. وهذا يكون البحث من الداخل والهدف في الداخل، والطريق إلى
الداخل. وعندما يجمع الداخل كل من الباحث والطريق والهدف يحقق الإنسان
المستوى الأسمى للحياة.
لقد حددت التعاليم الدينية كافة، بما فيها الديانات القديمة، وأيضاً جميع
الفلسفات، أولوية الإنسان، فقد ورد في العلوم الفيدية التي ترتكز عليها
جميع الديانات الشرقية القديمة ومنها الهندوسية والبوذية: "يوغا ستات كورو
كرماني" ما معناها تثبت بحالة التوحيد ومن ثم قم بما تريد أن تفعل، وطبقاً
للعلوم الفيدية، إن حقل التوحيد هو الوعي الصافي الموجود في داخل كل إنسان.
وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: "أعقل وتوكل" كلمة أعقل تعني ربط شيء
متحرك بشيء ثابت غير متحرك، فالعقل الواعي هو الشيء المتحرك الذي علينا أن
نعقله بوعينا الصافي المجرد غير المتحرك الموجد في داخلنا، كذلك ورد في
القرآن الكريم في سورة الذاريات: "وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم
أفلا تبصرون"، والآيات تعني الطاقة الإلهية والأرض تعني البدن أو الإنسان،
وهذه الآيات في أنفسنا أي على مستوى وجود النفس في سكون داخلنا، ويدعونا
الله في كتابه كي نبصرها، أي أن نثبّت مستويات إدراكنا الحسي (تبصرون) مع
الآيات الإلهية في سكون أنفسنا.
أيضاً لقد ورد في الإنجيل المقدس: "نالوا أولاً ملكوت الرب وكل الباقي يزاد
لكم" وملكوت الرب هو أيضاً في أنفسنا بقول الإنجيل: "ولا تبحثوا عن ملكوت
الرب هاهنا أو هناك إن ملكوت الرب فيكم" هكذا نرى وبدون أدنى شكل، أن
أولوية الإنسان هي الوصول إلى حقل السكون الداخلي، وليس عليه سوى أن يختار
الوسيلة الأكيدة للوصول.
|