الإنسان والمجتمع الجزء الثالث
 

  الشبكة العالمية موقع الإشراق

 

Home المدخل
Up فوق
الإنسان والمجتمع الجزء الأول
الإنسان والمجتمع الجزء الثاني
الإنسان والمجتمع الجزء الثالث
الإنسان والمجتمع الجزء الرابع

اشترك في مجلة الإشراق

انتساب
إلغاء الانتساب

صمم هذا الموقع

الوعي الجماعي

في حديثنا عن الحكم وقيادة الشعب يتوجب علينا أن ندخل في شرح مبدأ الوعي الجماعي. لا يزال العلم في مراحله الأولى في تحديد ماهية الوعي الفردي وتأثيره على الوعي الجماعي. إن الوعي الجماعي هو معدل وعي الأفراد الذين يعيشون في مجتمع معين. تشكل القرية مجتمعاً صغيراً. يقاس الوعي الجماعي في القرية بمعدل الوعي عند كل فرد من أبناء القرية. إذا كانت القرية تعتمد مبدأ نظام القبائل أو العشائر الوراثي فيكون شيخ القرية، أو رئيس بلديتها، قد تسلم مركزه عن أبيه. ويحكم بين أبناء قريته بالمنهج الذي يتقبلونه نسبةً لتطوّرهم ولمستوى وعيهم. لا يستطيع الحاكم تخطي حدود التقاليد القبلية والعشائرية، مع أنه في بعض الأحيان يشعر أن هذه التقاليد تقيّد قراراته وتعيق تطور القرية. وبالرغم من ذلك لا نجد خلافات في القرية ناتجة عن اللعبة الانتخابية، فيظل الوعي الجماعي في القرية متماسكاً، ما يعطي الحاكم الحرية الأكبر في التصرف لمصلحة القرية.

أما في القرى التي تعتمد النظام الانتخابي، فيكون انتباه رئيس البلدية المنتخب متجهاً إلى الحفاظ على موقعه ومركزه أكثر من الاهتمام بمصالح القرية بشكل متكامل وشمولي، فهو غالباً ما يولي اهتمامه بالذين انتخبوه، وخاصة بأبناء العائلات الكبيرة التي تؤمن له العدد الكبير من الأصوات في الانتخابات. وهكذا يصبح دافعه للعمل هو تأمين مصلحته الانتخابية خوفاً من عدم تأييده في الانتخابات المقبلة. ويعود سبب ذلك للانشقاق في الوعي الجماعي نتيجة للخلافات الانتخابية، فينشأ عن ذلك مجموعة مؤيدة للرئيس المنتخب ومجموعة أخرى أقل منها معارضة له، وهكذا يصبح الوعي الجماعي غير متناغم وغير متماسك، ما يقيّد حرية عمل الرئيس الذي يتخوف على موقعه من جهة، ويتخوف من معارضته من جهة أخرى، فيحكم مع الخوف، ولا يكون حكمه مطلقاً.

أما في الأنظمة التي يتم تعيين رئيس البلدية من قبل الدولة، وهذا أسوء أنواع الحكام، فيكون ولائه بشكل تام لمن قام بتعيينه، ولا يهتم إلا بما تأمره الإدارة التي عيّينته، في هذه الحال يطمس الوعي ويضغط على جميع أفراد القرية، ويخنق أفكارهم وتطلعاتهم، وتضيع طموحاتهم، ونتيجة للكبت والخوف، يتدنى مستوى ذكائهم وإبداعهم، فيتراجع الوعي الجماعي.

إن ما ينطبق على مستوى القرية الصغيرة ينطبق أيضاً على المستويات الأخرى من المقاطعة والمحافظة والولاية والبلد والعالم ككل. تكمن أهمية رفع مستوى الوعي الجماعي، في رفع مستوى ما يستحقه أفراد المجتمع. في شرحنا عن الإنسان، حددنا أن العقل الفردي هو الذي يقود حياة الإنسان، أما المستويات الأخرى من العقل والجسم فهي تنفذ ما يقرره العقل. أما على مستوى المجتمع، فيمثل الحاكم عقل المجتمع، الذي يقود المجتمع للقيام بما يرسمه الحاكم من مخططات. وكما أن الجسم يؤثر على نمط تفكير العقل نتيجة لما يأكل أو ما يتأثر به الجسم من عوامل خارجية، كذلك يتأثر الحاكم بما يتواجد ويتفاعل في المجتمع الذي يحكمه. إذا تميز الإنسان بعقل منفتح ومتطور، يؤدي ذلك إلى انتظام في الأداء الوظيفي للجسم ما ينكس بصفاء ذهني أكبر وتوسع أفاق العقل. وهذا ما يحدث تماماً عندما يكون الحاكم عادلاً وتقياً وينمي مختلف طاقات المجتمع، فينعكس ذلك ايجابياً على تطور الشعب ما يؤدي إلى رفع مستوى الوعي الجماعي، ومع تطور الوعي الجماعي يرتد ذلك بشكل إيجابي على الحاكم. هكذا وبهذه الطريقة من التطور للوعي الجماعي، تدخل البلد بحلقة من الإيجابية والتطور بسرعة متزايدة.

الإشعاع الإيجابي

يدخل العلم الحديث المتخصص في دراسة الظواهر الطبيعية، في التعمق بموضوع التأثيرات السلبية والتأثيرات الإيجابية. لاحظ العلماء أنه عندما يحدث عمل إيجابي في مكانٍ ما، يبقى هذا التأثير الإيجابي لفترة معينة بعد انتهاء العمل. ومن يأتي إلى هذا المكان بعد حدوث العمل الإيجابي يشعر بنوع من الإيجابية. وكذلك إذا حدث شيء سيئ في مكان ما، يبقى التأثير السيئ لمدة بعد إزالة الأعمال السيئة. وبعد القيام بالدراسات والتحاليل تبين أن هناك الكثير من الأمر التي نعرفها، والتي تعطي تأثيرات إيجابية على الإنسان، ومن هذه التأثيرات مثلاً: وضع الأزهار والنباتات في المنزل وعلى المدخل، وضع نافورة من الماء، إشعال الشموع والبخور، وتلاوة الكتب المقدسة والصلوات. كما لاحظ العلماء أن الإنسان بحد ذاته يستطيع أن يعطي إشعاعات تؤثر على محيطه، ولكنهم لاحظوا أن بعض الأشخاص يعطون إشعاعات إيجابية والبعض الآخر يعطون إشعاعات سلبية. وفي التحليل المعمق لمعرفة الأسباب، كشفت الأبحاث أنه عندما تكون الموجات الدماغية عند الإنسان منسجمة ومتناغمة، يزداد نسبة الإشعاع الإيجابي، أما إذا كانت الموجات الدماغية مبعثرة فيعطي الإنسان إشعاعات سلبية. وتابعت الدراسة كي تكتشف المسببات التي تؤدي لانتظام موجات الدماغ، وكانت النتيجة أنه عندما يتحلى العقل بالصفاء الذهني تنسجم موجات دماغه. يصل العقل إلى حالة من الصفاء الذهني خلال ممارسات والتأمل واليوغا. في جامعة مهاريشي الفيدية، تظهر الدراسات العلمية أنه خلال ممارسة تقنية التأمل التجاوزي ومعها تقنية الطيران اليوغي، وفي لحظة ارتفاع الجسم عن الأرض من جراء تحكم العقل التام بالجسم، تنتظم موجات الدماغ بشكل دقيق ومتزايد تصل إلى حدها الأقصى. في هذه الأثناء يكون هذا الفرد الذي يمارس تقنية الطيران اليوغي، مشعاً بغزارة للتأثيرات الإيجابية في محيطه. ومن الملحوظ والمثبت علمياً أنه عندما تنسجم موجات الدماغ عند شخص ما، يعطي إشعاعات إيجابية تؤدي إلى انتظام في موجات الدماغ عند الأفراد المحيطين به. يقول مهاريشي ماهش يوغي، مؤسس تقنيات التأمل التجاوزي والطيران اليوغي، أن الطيران اليوغي هو ميكانيكية السلام العالمي. يشرح مهاريشي بأنه عندما تقوم مجموعة من الأشخاص في ممارسة تقنية الطيران اليوغي في مكان واحد، يعطون تأثيرات مضاعفة تنعكس بشكل ايجابي على كامل المجتمع، لذلك يدعو مهاريشي كل حاكم وكل حكومة في كل بلد إلى إيجاد مجموعة في بلده، من الخبراء في التأمل التجاوزي والطيران اليوغي، كي يمارسون هذه التقنيات بشكل يومي للمحافظة على التماسك والتناغم في لوعي الجماعي. يضيف مهاريشي قائلاً أنه في كل بلد يوجد الجيش كي يحمي الحدود، وكما يوجد في الجيش عدة ألوية، يمكن للحكومة أن تؤسس لواءً إضافياً للمحافظة على رفع مستوى الوعي، وهذا اللواء الجديد سوف يرفع مستوى الوعي الجماعي، وفي نفس الوقت سوف يؤمن الحماية الدفاعية التي تتعدى ما هو مفترض أن تقوم به الجيوش، فتنخفض النزاعات والخلافات الداخلية والخارجية، وتنخفض التدخلات الخارجية الضارة، وتنخفض الميول السيئة في المجتمع مثل الأمراض ودخول المستشفيات وتعاطي الكحول والمخدرات الضارة وحوادث السير والسرقات وانتشار الأوبئة وغيرها من الميول السلبية في المجتمع. إن هذا ما يتمناه كل حاكم مخلص لشعبه وبلده. على الحاكم أن يعطي الطمأنينة والحماية والبحبوحة لشعبه، وعلى الشعب من جهتهم، أن يعطونه الولاء والإخلاص.

طبقة التجار

إن طبقة التجار هي التي تحافظ على مصادر الثروة، وهي التي عليها أن تؤمن حاجات المجتمع الحياتية. في الحضارة الفيدية كان العمل الأساسي للتجار في زراعة الأرض ورعاية الماشية والدواجن ومعالجة المحاصيل وتسويقها. لم يكن نظام الملكية العقارية سائداً في العصور الفيدية، فالأرض هي للجميع، ويحميها عائلات الكشاتريا وهم الحكام وجيشهم، ولا يعتني بالأرض سوى عائلات الفيسيا وهم التجار، وهكذا ومع التوزيع الصحيح للأدوار، كانت عائلات التجار تعتني بالأرض عناية فائقة لتعطيها المحصول الجيد والكثير. إن كل ما تنتجه الأرض وكل ما يعيش عليها من نبات وأشجار وحيوان هو المحصول الذي على التجار العناية به وتوزيعه على طبقات المجتمع كافة. ويشمل ذلك الذهب والأحجار الكريمة والمعادن الخشب وغيرها من الثروات الطبيعية والمناجم وكل المواد التي يستخدمها الإنسان في حياته. لقد كان هناك اهتماماً خاصاً بالأبقار بسبب أن البقرة التي تأكل العشب الذي ينبت بين الزرع والذي لا يصلح لطعام الإنسان، وتحوله إلى حليب لمنفعة الإنسان، أما خروج البقر (الغائط) فكان يستخدم كأسمدة للزراعة، والبول كان يستخدم لأغراض شتى في الوقاية من الحشرات الضارة. هكذا كانت تنظر الشعوب في الحضارة الفيدية إلى البقرة، فهي المخلوق الذي في كل ما يقوم به يعطي منفعة للإنسان؛ فالبقرة تأكل العشب الذي يريد الإنسان التخلص منه وتعطي الحليب الذي يعتبر من أهم مصادر طعام الإنسان حتى في عصرنا هذا، وتعطي السماد لتنمية الزرع وتعطي البول للوقاية من الحشرات السامة. كانت البقرة رمزاً للثروة، وقد تم رسمها على الكثير من العملات النقدية القديمة. لذلك كان على التجار تأمين الحماية للبقر وكما عليهم معاملتها بعناية وكأنها قطعة من الأرض. لا يوجد في العلوم الفيدية أي نوع من التعبّد إلى البقر، فهذا المفهوم لعبادة البقر عند الهندوس هو مفهوم خاطئ. يعتمد الفيسيا، التجار مسلك الكارما يوغا في طريق التطور، الكارما يوغا تعني المسلك التوحيدي من خلال الأعمال الصالحة، فهم يمارسون تقنيات الكارما يوغا التي تتطلب العمل بإتقان وفي سبيل الجميع ودون التعلق بثمار العمل، وهكذا عندما يقوم الفيسيا، بالعمل لإنتاج المحاصيل، يقوم بذلك دون التعلق بما ينتجه، ومن خلال هذه الممارسة يستطيعون الوصول إلى التنور والإشراق.

توزيع الثروة والمحاصيل

لا يمكن للمجتمع أن يعيش دون تأمين الحاجات الحياتية. كان للتجار الحرية المطلقة في التصرف، فهم لا يخضعون للحاكم بشكل مباشر، بل ينسقون معه ويرعون حاجاته وحاجات جيشه. إن الطبقتان الأولى والثانية، أي الحكماء والحكام، هما طبقتان غير منتجتان، لذلك يكمن دور التجار في تأمين حاجات هاتان الطبقتان. من هنا أتى مفهوم جباية الضرائب، في الحضارة الفيدية لم تكن الضرائب مفروضة من الحكام، بل كان التجار هم الذين يحددون ما يقدمونه إلى الحكماء والحكام، لا بل كانت التقاليد تفرض أن يقدم التجار كل ما يجنونه إلى الحكماء، فيأخذ الحكماء حاجاتهم التي تكون متواضعة ويباركون المحصول، ومن ثم يقدمون المحصول بعد أن يكون الحكماء قد باركوه إلى الحكام الذي يأخذون بعدل ما يحتاجونه، ويتركون الباقي للتجار وهم أيضاً يحفظون ما يحتاجون ويوزعون باقي المحصول على عائلات العمال والخدم.

نظام الاقتصاد

إن هذا النظام الاقتصادي في العصور الفيدية، لا ينطبق مع أي من الأنظمة الاقتصادية السائدة في عصرنا اليوم سوى في نظام الأسرة الضيق جداً. في العائلة الصغير نحن جميعاً وخاصة في المجتمعات الشرقية، نطبّق بشكل طبيعي نظام الاقتصاد الفيدي. أن الأب الذي يؤمن حاجات البيت، يقدم المحصول الذي جناه إلى العائلة، فيأكل كل فرد ما يحتاجه، ويلبس كل فرد ما يحتاجه أيضاً، وهكذا تتوزع المحاصيل في العائلة على كل فرد بالنسبة التي يحتاجها الفرد، وليس بالتساوي. في هذه العائلة التي تتحلى بالقيم الأخلاقية الواعية والمتطورة، لا يشعر الفرد فيها بالحاجة إلى الادخار وتخزين الحاجيات، فهو يستطيع دوماً أن يأخذ ما يحتاج وفي أي وقت. أما إذا غابت القيم والمبادئ في العائلة، وساد الطمع مكان القناعة، يختل النظام الاقتصادي في العائلة، فيتدخّل الأب ويسن القوانين الصارمة التي توزع الحصص بنسب معينة ومحددة، وعندما تحدد النسب ومهما كانت كبيرة، يضيع الشعور بالبحبوحة، ويصبح مع كل استخدام لأي من الحاجيات شعور غصة بفقدان الشيء، وبذلك يسود شعور القلق، والقلق يخطف السعادة والفرح. إن عدم اعتماد هذا النوع من النظام الاقتصادي هو ناتج عن الخلل في الوعي عند أفراد العائلة، لذلك على الأب أن يعمل أولاً على رفع مستوى الوعي عند أفراد عائلته كي يتمكن من أن يقدم لهم البحبوحة والطمأنينة والسعادة.

إن ما ينطبق على العائلة الصغير يمكن أن ينطبق على كل خلايا المجتمع من القرية والقبيلة والعشيرة والمحافظة والولاية والبلد والعالم. ولكن هل من الممكن تطبيق نظاماً اقتصادياً في عصرنا الحالي يمكنه أن يعطينا البحبوحة والطمأنينة والسعادة. إن الجواب الإيجابي على ذلك هو ممكن إذا استطاع الأب أن يرفع مستوى الوعي لجميع أفراد عائلته. بارتفاع مستوى الوعي في العائلة يرتفع مستوى الوعي في المجتمع والبلد والعالم ككل. وبذلك يمكن تطبيق النظام الاقتصادي الفيدي، في كل قرية أو قبيلة أو عشيرة، ومع تطبيق هذا النظام على المستوى الصغير بشكل كامل لن يعود هناك من حاجة لتطبيقه على المستوى الكبير إذ أن كل فرد من أفراد الشعب لا بد أن يكون فرداً من القرية أو القبيلة أو العشيرة.


Back السابق Home المدخل Up فوق Next التالي