النفس
الكونية
عندما
تتهيأ الروح الكونية للعمل لا بد من أن تجد الوسيلة التي بها تباشر العمل.
إن الروح هي خالدة لا تستطيع أن تتأثر بما حولها إذ أن طبيعتها من طبيعة
المطلق، فلا يمكن لما هو مطلق أن يتفاعل بشكل مباشر مع ما هو غير مطلق،
لذلك يتوجب وجود عنصر يستطيع أن يصل المطلق مع النسبي. لا يمكن للطاقة
العلوية أن تتفاعل مع الطاقة الدنيا، إنما تستطيع الطاقة العلوية أن ترسل
عنها من يمثلها للتعامل مع الطاقة الدنيا، وهكذا عندما تتهيأ الروح للدخول
في المادة تظهر النفس التي تتصل بالروح من جهة وتتصل بالعناصر المادية من
جهة أخرى. إن النفس هي ملازمة للروح طوال مدة وجودها في المادة، عندما تظهر
النفس مقابل الروح، تكون النفس طاهرة على صورة الروح التي تناسخت عنها. ومع
انطلاق العمل في الوجود تبدأ النفس الكونية في تجميع الانطباعات لكل ما
تختبره في الوجود المادي. لا يمكن للنفس الكونية أن تعود وتستقر في الروح
الكونية إلا بعدما تستطيع النفس الكونية الوصول إلى التوازن التام بين
الانطباعات السالبة والموجبة. وعندئذٍ تهمد النفس في الروح ويستقران بسكون
البحر الإلهي، فيفنى الكون كله كي يعود وينطلق من جديد.
وهذا
النظام بين الروح الكونية والنفس الكونية ينطبق على جميع مستويات الوجود،
بدءً بروح الله الأولى المتفرع عنها روح الخالق وروح الحافظ وروح المفني،
وصولاً إلى أدنى مستوى من الروح التي تأخذ شكلاً من أشكال الوجود المادي
للمرة الأولى. تستمد النفس الكونية (براكريتي) طاقتها من الروح الكونية (بروشا)
كما تأتي حواء من ضلع آدم، فتتجه النفس الكونية إلى تحريك العقل الكلي (مهات)
المنظم للوجد (الكلمة)، وتدفعه للشعور بالأنا الكونية (أهمكار) ومنها تظهر
الغريزة العقلية (مناس) ومنها مسببات الإحساس الكونية (الصوت واللمس والشكل
والذوق والرائحة) فتعطي أعضاء الحواس الخمس (الأذن والجلد والعين واللسان
والأنف) وأيضاً أعضاء العمل الخمس (اللسان واليد والرجل والمخرج والعضو
التناسلي)، وصولاً إلى عناصر المادة الخمس (الأثير والهواء والنار والماء
والتراب). هذا هو الدور الذي تلعبه النفس في كل مستويات الوجود.
الخلود والموت في النفس
كما
رأينا، إن التركيبة البنيوية للكون تبدأ في الحقل الإلهي الذي يتضمن
مستويين: المستوى الخالد والمستوى الميت: في المستوى الخالد هناك الروح
الإلهية الكونية (بروشا) ويتلازم معها النفس الكونية (براكريتي)، ولكن
النفس الكونية لها وجهتين: الوجهة الأولى وهي ساكنة مطلقة ومتصلة دوماً
بالروح الإلهية الخالدة، أما الوجهة الثانية فهي نابضة ومتفاعلة، وهي
الناحية المتصلة بالحقل النسبي أي المستوى الميت للوجود. إن الوجهة النابضة
للنفس لها مستويات من التفاعل، وكلما كانت متفاعلة كلما كان الوجود
موجوداً، وعندما تتوقف عن التفاعل يزول الوجود وتهمد النفس في الروح
الإلهية. هذه هي مراحل ميكانيكية الوجود. وهذه هي الطبيعة الكونية.
قدر
الوجود
لقد
ذكرنا في السابق أن هدف الوجود هو من أجل تجلي الطاقة الإلهية الكونية،
فلنقل أن إرادة الله أو مشيئة الله أو الرغبة الطبيعية لله في الظهور هي
المسبب الأساسي للوجود الذي يهدف إلى أن تصل المادة إلى أعلى مراتب الكمال
الإلهي. وذكرنا أيضاً مراحل تفتح الوعي من المستوى غير الظاهر إلى المستوى
الظاهر. ولكننا نحتاج أن نعرف ما هو القدر المسبب الذي دفع هذا الوجود كي
يكون موجوداً. يوجد قانون هام من قوانين الطبيعة الرئيسية وهو أن لكل فعل
ردة فعل. يسمى هذا المبدأ في علوم الفيدا بمبدأ الـ "كارما" يمكننا أن
نترجمها بالقدر. إن ردة الفعل الناتجة عن الأعمال السابقة هي التي تحدد
القدر والمصير للفاعل في المستقبل. وهنا نسأل كيف قدّر للوجود أن يكون، ما
هو الفعل الذي أدى إلى ردة الفعل في الوجود الكوني. ومن هو الفاعل؟ إن لكل
فرد قدره، هذا قانون من قوانين الطبيعة. وكذلك للكون كله قدره الذي يتحكم
بحياته الكونية الظاهرة. إن ولادة الكون المادي هي ردة فعل لاضمحلاله في
دورة وجوده السابقة. لقد برهنت علوم الفيزياء الحديثة (فيزياء الكم) أن
الثقوب السوداء هي الاضمحلال التام للمجرة في نقطة واحدة، وفي هذه النقطة،
(الثقب الأسود كما تسمى علمياً) تتجمع الطاقة كي تنفجر من جديد لتشكل مجرة
جديدة، ويعرف ذلك بالـ "سوبر نوفا". إن انبثاق المجرة الجديدة هو ليست سوى
ردة الفعل لاضمحلال المجرة القديمة. ونتيجة لكيفية اضمحلال المجرة القديمة
ونتيجة للمكونات والجزيئات التي اضمحلت في الثقب الأسود للمجرة القديمة،
تنبثق المجرة الجديدة بالمكونات ذاتها التي اضمحلت في المجرة القديمة.
وهكذا نرى أن المجرة تولد وتنتشر وتتمدد إلى أن تصل إلى أقصى بعد في
تمددها، ومن ثم تضمحل كلياً في ثقب أسود، وتتحول إلى طاقة كي تنفجر من جديد
في مجرة جديدة.
إن ما
يحدث على مستوى المجرة في عملية الاضمحلال وإعادة الانبثاق، يحدث بشكل
مشابه على مستوى الكون أجمع، في ساعة اضمحلال الكون سوف تتفتت العناصر
المادية للوجود وتنجذب كلياً إلى ما يشبه الثقب الأسود الكوني، ومن ثم
ونتيجة لتكاثف الطاقة الكونية في الثقب الواحد، تعود هذه الطاقة وتنفجر من
جديد، فيخلق الكون الجديد بعد اضمحلال الكون القديم. وهكذا يتحدد قدر الكون
الجديد نتيجة لكيفية ونوعية العناصر الوجودية التي اضمحلت في الكون القديم.
الوجود الأول
إذا كان
وجود الكون هو نتيجة لردة فعل اضمحلال كون آخر كان قد سبقه، نجد أنفسنا أما
سؤال جديد: متى كان الكون الأول؟ إن جدلية الكون الأول هي شبيهة بجدلية
البيضة والدجاجة، أيهما كان قبل الأخرى. إذا نظرنا إلى الكون من الناحية
المادية فقط لن نستطيع أن نصل إلى الجواب المرضي عن هذه المسألة، ولكن
علينا أن ننظر إلى الناحيتين: الناحية المادية الظاهرة والناحية المطلقة
غير الظاهرة. تشكل الناحية المادية الظاهرة انعكاساً للناحية المطلقة غير
الظاهرة. علينا أن ننظر إلى الأمر من هذا المنظار. إن الثقب الأسود هو نقطة
الهمود للمجرة، التي فيها تنتهي الناحية المادية الظاهرة للمجرة. ومع فناء
جميع العناصر المادية للمجرة، تتجمع المعلومات وتدون في ذاكرة الثقب
الأسود. وهكذا نستطيع القول أن الثقب الأسود يحتوي على جميع المعلومات التي
على أساسها تولد منه المجرة الجديدة. يشبه ذلك جزيء الحمض النووي في الجسم،
حتى ومع زوال الجسم يحفظ جزيء الحمض النووي المعلومات الكاملة عن الجسم مع
كل مميزاته العقلية والنفسية. وفي حال وجود جزيء واحد للحمض النووي، يستطيع
العلم في هذا العصر، استنساخ كائناً حياً كاملاً ومتكاملاً من جزيء الحمض
النووي. وهكذا نستطيع القول أن الكون كله لا يحتاج إلا إلى جزيء واحداً من
حمضه النووي (مجازياً). وفي النطاق الكوني إن جزيء الحمض النووي للكون هو
ليس سوى الروح الكونية (بوروشا) ومتلازماً معها النفس الكونية (براكريتي)
مجتمعين في حقل براهمان، الحقل الإلهي. وبراكريتي تتفاعل نتيجة للمعلومات
المجمعة في ذاكرة الوعي، وعي براهمان، والمعلومات لا بد أن تكون قد أتت من
مكان ما. إذا تابعنا تحليلنا على هذا النحو، لا يمكننا القول أن هناك كوناً
أولاً قد وجد، ومن ثم تكررت العملية. بالطبع لكل شيء مادي بداية ونهاية،
ولكن المطلق ليس له بداية ولا نهاية. إن الكون هو مطلق بشكل دائم، أنه الله
الأبدي السرمدي في العلوم الدينية. فهو دائم الوجود ودائم الحضور، هذه هي
الطبيعة الكونية، ولكن الكون يظهر أحياناً ويختفي أحياناً أخرى. حينما يظهر
يكون الوجود وحينما يختفي يكون الفناء. إن عملية الظهور هي نتيجة لطبيعة
الله، الرغبة الإلهية للظهور، وحينما يفنى تكون الرغبة الإلهية قد تحققت.
يدوم ظهوره الواحد مليارات السنين وفي فنائه الواحد مليارات السنين أيضاً،
وهو يظهر ويفنى باستمرار واستمرار إلى ما لا نهاية. إن هذا الكون بتفاعلاته
غير المحدودة هو ليست سوى حقل لا محدود من الديناميكية المطلقة. تهمد هذه
الديناميكية وتنطلق باستمرار، ومع كل همود يكون الفناء ومع كل انطلاق يكون
الوجود. |