تحرر الروح
بالرغم من أن بذرة الشجرة تتضمن في داخلها جميع مراحل تكوين الشجرة إلا أن البذرة
الصافية هي تلك التي لا يلتصق بها أي أثر للشجرة، فتكون نظيفة تماماً كي نصنفها
بأنها بذرة صالحة للزرع. إن البذرة الصالحة للزرع هي البذرة الناضجة والكاملة
والنقية وغير المزروعة. وهكذا يتوجب على الروح الفردية أن تكون كاملة وناضجة ونقية
وغير ملتصقة بأي عنصر مادي.
لقد ذكرنا بأن الروح الفردية تعمل في المادة، أي الجسم، من خلال انعكاسها في النفس.
تتلقى النفس جميع التأثيرات المادية وتجمعها حولها بشكل انطباعات تنطبع فيها.
وبالرغم من أن هذه الانطباعات لا تؤثر بشكل مباشر على الروح الفردية، إلا أنها
تلازم النفس الفردية التي هي مرتبطة بالروح. وهكذا تربط النفس الروح بالموجود
المادي ما دامت النفس تجمع حولها الانطباعات. ومن هنا نستنج المعادلة الحسابية
التالية:
الروح الإلهية = الروح الفردية + النفس
لا تستطيع الروح الفردية في العودة إلى حقل الروح الإلهية إلا عندما تصبح الروح
الفردية مطابقة تماماً للروح الإلهية فتصبح معادلة دخول جنة الله هي:
الروح الإلهية = الروح الفردية
لكن وبسبب أن طبيعة الروح الفردية تتطلب أن تكون النفس فاعلة عندما تدخل في الوجود،
على الروح الفردية أن توقف تفاعل النفس كي تعود إلى حقل الروح الإلهي. إن تحرر
الروح يتطلب أن تتخلص النفس من كل الانطباعات التي تجمعت حولها. مع خلاص النفس من
كل الانطباعات يتوقف تفاعلها وتصبح قيمتها المادية فارغة مساوية للصفر، وبذلك تصبح
المعادلة:
الروح الإلهية = الروح الفردية + صفر
عندئذ تصبح الروح الفردية متطابقة بشكل تام مع الروح الإلهية، وهكذا تعود الروح
الفردية إلى جنة الله. وبإعادة الروح الفردية إلى الجنة، تكون الديانات جميعها قد
حققت أهدافها.
انطباعات النفس
إذا كان هدف الحياة أن تعطي بذرة جديدة بعد موت البذرة الأولى في التراب وتحولها
إلى شجرة كي تعطي الثمر، ومن الثمر تأتي البذرة الجديدة. وإذا كان هدف الحياة أن
تعود الروح الفردية إلى الروح الإلهية، وإذا كانت الروح الفردية لا تتأثر بالحقل
المادي إلا من خلال النفس، وبما أن النفس تبقى ملازمة للروح ما دامت تحمل
الانطباعات، لذلك يكون خلاص النفس هو العمل الرئيسي للفرد من أجل تحقيق هدف الحياة.
تجمع النفس حولها الانطباعات نتيجة لتفاعل الفرد مع البيئة المحيطة به. ويكون
المعيار لعمل الفرد بنسبة تماشيه مع قوانين الطبيعة، وهذه القوانين تتغير مع تغير
المكان والزمان. يعطي العمل المنسجم مع قانون الطبيعة انطباعاً ايجابياً في النفس،
ويعطي العمل غير المنسجم مع قانون الطبيعة انطباعاً سلبياً في النفس. لهذا السبب
تدعو الديانات جميعها إلى القيام بالأعمال الصالحة والابتعاد عن الأعمال السيئة
والخطيئة. تتركز الديانات بشكل عام على أن يقوم الإنسان بالأعمال الصالحة في حياته
ويبتعد عن الخطايا، كي تذهب روحه إلى الجنة وتعود إلى ربها طاهرة نقية. في المفاهيم
الدينية هناك الكثير من الاختلافات بين ديانة وأخرى، من حيث الوسيلة والأسلوب
والمبادئ والطقوس، إلا أن الديانات جميعها تدعو إلى عودة الروح إلى الله. كلمة
ديانة باللغة العربية هي مشتقة من كلمة دَين، والدين هو ما أُخذ كي يُردّ، عندما
نستدين مبلغاً من شخص ما، علينا أن نرد الدين الذي أخذناه. وهكذا كلمة ديانة تضم في
جوهر معناها، إعادة الدين إلى الله، والشيء الذي تم استدانته من الله هو الروح،
لذلك علينا أن نرجع الروح إلى الله. ومن أجل إرجاع الروح إلى الله علينا أن نعمل
على خلاص النفس، لأن الانطباعات في النفس هي التي تمنع الروح من التحرر.
مراحل الخلاص
هناك مسألة يتوجب حلها، وهي أنه ما دامت النفس في حقل الوجود فهي تجمع الانطباعات،
وما دامت الانطباعات موجودة حول النفس فلا يمكن للروح أن تتحرر وتتوحد بالحقل
الإلهي. يبدوا الأمر وكأننا قد علقنا في دوامة لا يمكننا التخلص منها. ولكن ما
العمل؟ كيف نحمي النفس من التأثر من الانطباعات؟
إذا قمنا بعمل معين عن سابق تصور وتصميم، يؤدي ذلك العمل إلى انطباعات واضحة في
عقلنا ونفسنا، وإذا قمنا بعمل ما عن غير قصد، أو دون دراية، يكون الانطباع أقل، أما
إذا قمنا بعمل ما ونحن في حالة من الغيبوبة التامة، لا يمكن للعقل أن يسجل أي
معلومات ولا يكون هناك من انطباعات نفسية. إذاً هناك باب يمكننا أن نتسلل من خلاله
دون أن نسجل الانطباعات في النفس. وهذا الباب هو بأن نقوم بالعمل دون أن نتورط به.
عندما نكون في حالة النوم وندخل في الحلم، نتأثر ونتفاعل بما يدور من أحداث خلال
الحلم، ولكن عندما نستيقظ وندرك بأننا كنا نحلم، تتبدد وتزول كل التأثيرات التي
حدثت معنا من جراء الحلم. هكذا علينا أن نخرج وعينا من مجال التأثر من أحداث حياتنا
كي نخلّص النفس من الانطباعات.
لقد ناقشنا في هذا الكتاب بأن كل عمل في الوجود يرتكز على قاعدة ثلاثية وهي الفاعل
والفعل والمفعول به. إذا أردنا أن نخرج وعينا من مجال التأثر، علينا أن نأخذ الفاعل
خلف نطاق التأثر بنتائج أعماله. إذاً علينا أولاً أن نطوّر الفاعل، ومن ثم نطوّر
أدائه كي نصل إلى تطوير ما يفعل. هذه هي المراحل الثلاثة للخلاص. لقد وردت هذه
المراحل الثلاثة في جميع الرسائل السماوية، وفي العديد منها كانت واضحة بمراحلها
الثلاثية، أما في الرسائل الأخرى، فقد ذكرت المراحل دون التبويب الثلاثي.
تطوّر الذات
عندما نذكر الفاعل نعني به الذات الفردية، عندما يتفتح وعي الإنسان على الحقل غير
المحدود للوعي الصافي في داخلنا ويثبت فيه، يحقق الإنسان صحوة الذات، وبذلك يصبح
الإنسان مدركاً لجميع قوانين الطبيعة، ويخرج من نطاق محدودية العقل الذي يضيع في
العمل الذي يقوم به. عندما يثبت الإنسان وعيه في الوعي الصافي، يصبح عقله قادراً
على القيام بالعمل وفي نفس الوقت يبقى في صحوة دائمة للشمولية الكونية. وبذلك يكون
قد خرج عقله من نطاق محدودية الفعل. عندما يقوم الفاعل بفعل ما، وعقله منفتحاً على
الشمولية، لا تستطيع محدودية الفعل أن تحدث تأثيراً أو انطباعاً على النفس. وهكذا
نرى أن المرحلة الأولى لخلاص النفس هي دعوة إلى تطور العقل إلى أقصى درجاته في حالة
الصحوة الداخلية وتفتح الذات، عندئذ يصبح العمل خالٍ من الانطباعات على النفس.
لقد دعت الديانات كلها الإنسان إلى أن ينال حالة الصحوة الداخلية، وقد ورد ذلك في
العلوم الفيدية، في البهاغافاد غيتا: "يوغا ستات كورو كرماني" أي ما معناه: "أثبت
عقلك بحقل المطلق ومن ثم قم بأعمالك"، على الفرد أن يثبت عقله بالمطلق بالحقل
الإلهي قبل أن يقوم بأي عمل. وورد في الحديث الشريف "أعقل وتوكل"، عليك أن تعقل قبل
أن تتوكل على الله في القيام بأعمالك. كلمة "عقل" تعني ربط شيء متحرك بشيء ثابت،
وفي هذا القول: أعقل وتوكل، نفسر أعقل بربط العقل الواعي المفكر مع حقل الوعي
الصافي الثابت في داخلنا، قبل القيام بأعمالنا. وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى الحقل
الإلهي في قوله في سورة الذاريات: "وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا
تبصرون". كما ورد أيضاً في الإنجيل المقدس: "نالوا أولاً ملكوت الرب وكل الباقي
يزاد لكم" وهنا ملكوت الرب هو الحقل غير المحدود للطاقة الإلهة في داخل كل منا. وقد
أرشدنا الإنجيل أيضاً إلى موقع ملكوت الرب في قوله: "لا تبحثوا عن ملكوت الرب هاهنا
أو هناك إن ملكوت الرب فيكم". هكذا نرى أن كل الديانات تدعوا الإنسان إلى أن يطوّر
ذاته أولاً كي يخلص نفسه من العذاب الأبدي. إن هذه الدعوة لرفع مستوى الذات هي في
الجوهر، من أجل أن تبعد الانطباعات عن النفس كي تجعلها نقية وخالية من أي خطيئة.
|